على ضفاف النيل الهادئ في مدينة أسوان، وبين مشاهد الطبيعة الخلابة وصوت الطيور الذي ينساب في الأجواء، يقف الطفل النوبي “محمود”، ذو الأحد عشر عامًا، بابتسامته الدافئة وعينيه المليئتين بالبراءة والطموح. محمود، طالب في الصف الخامس الابتدائي، لم يكن يعلم أن يومًا بسيطًا في حياته سيتحول إلى حديث الصحافة العالمية، ويضع اسمه بين عظماء القيم والأخلاق.
“محمود” ليس كباقي أقرانه؛ فبعد يوم دراسي طويل، يخرج إلى شوارع أسوان لبيع الحُلي والمشغولات النوبية اليدوية للسياح. ليس الهدف فقط هو كسب المال، بل المساهمة في دعم أسرته وتخفيف العبء عنها، في صورة تعكس عمق المسؤولية التي يتمتع بها هذا الطفل رغم صغر سنه.
في يوم مزدحم بالسياح الذين جاؤوا للاستمتاع بجمال أسوان، كانت “ماريا”، سائحة أرجنتينية، واحدة من بين هؤلاء الزوار. توقفت أمام محمود لشراء أربع حظاظات يدوية. بعد تفاوض بسيط، وافقت على دفع 5 دولارات، وأعطته ورقة نقدية. محمود، الملتزم بعمله، أخذ الورقة ووضعها في جيبه دون أن يدقق فيها.
ولكن حين أخرجها لاحقًا، اكتشف أنها ورقة بقيمة 20 دولارًا، وليست 5 دولارات. عوضًا عن الاحتفاظ بها، انطلق محمود مسرعًا بين الحشود بحثًا عن “ماريا”، ليرد لها ما يزيد عن حقه. وبعد محاولات طويلة وجهد كبير، وجدها وأعاد إليها المبلغ.
الموقف كان صادمًا بالنسبة لـ”ماريا”. لم تصدق أن طفلاً بهذا العمر قد يصر على إعادة مبلغ ربما يعد صغيرًا بالنسبة لها، ولكنه يعكس قمة القيم بالنسبة له. تأثرت بشدة بأمانته ونبل أخلاقه، فقررت أن تلتقط صورة معه وتنشر قصته على حسابها الشخصي في “إنستجرام”.
كتبت “ماريا” تعليقًا على الصورة قائلة: “هذا الموقف جعلني أقرر زيارة مصر مرة أخرى. أمانة هذا الطفل النوبي الصغير جعلتني أؤمن بأن في العالم أماكن تنبض بالخير والنقاء. سأدعو كل أصدقائي لزيارة أسوان ومقابلة هذا الطفل الأمين.”
من أسوان إلى الأرجنتين.. محمود حديث الصحافة
القصة التي بدأت بموقف بسيط تحولت إلى حدث كبير في وسائل الإعلام الأرجنتينية. الصحف هناك احتفت بالطفل المصري الذي أصبح رمزًا للأمانة والنزاهة، مؤكدة أن أفعال الصغار قد تكون أعظم من أفعال الكبار.
بتصرفه هذا، لم يعكس “محمود” فقط قيم التربية والأخلاق التي نشأ عليها، بل قدم صورة مشرقة عن أهل مصر عامةً، وأهل النوبة خاصةً. أمانته كانت بمثابة رسالة مفتوحة للعالم عن جوهر الإنسان المصري الأصيل.
قصة محمود لم تكن لتحدث لولا القيم التي زرعها فيه والديه. هم أبطال خلف الكواليس، علّموه أن المال لا يساوي شيئًا إذا لم يكن حلالًا، وأن الأخلاق هي رأس المال الحقيقي.
الطفل النوبي محمود أثبت أن القيم الأخلاقية لا تعرف عمرًا، وأن التربية الصالحة قادرة على خلق أجيال تحمل الخير للعالم. قصته هي دعوة للجميع، ليس فقط للاحتفاء به، بل لتعليم أبنائنا أن الأمانة والصدق هما المفتاح الحقيقي لبناء مجتمع أفضل.